أيها السادة: لم يبق اختيار
سقط المُهر من الأعياء،
وانحلت سيور العَرَبة
ضاقت الدائرة السوداءُ حول الرقبة
صدرنا يلمسه السيفُ،
وفي الظهر: الجدار
أيها السادة: لم يبقَ انتظار
قد منعنا جزيةَ الصمتِ للملوك وعَبد
وقَطَعنا شعرة الوالي "ابن هند"
ليس ما نخسره الآن..
سوى الرحلة
من مقهى إلى مقهى..
ومن عارٍ .. لعَار!!
البيان السابق لست أنا من أصدره، ولا يعنى هذا تهربي من تبعاته، بل اعتراف بعجز مفرداتى عن التعبير عن واقع الحال. إنه "بيان" تحريضي يدعو للثورة على الاستبداد والفساد، أصدره الشاعر "أمل دنقل" في افتتاحية قصيدة "الموت في الفراش" عام 1970، متنبئا بما سيحدث بأكثر من سبع وثلاثين سنة وما تتطلبه مصر الآن.
"أمل دنقل" شاعر النبوءة، وشاعر الرفض متجسدا في:
"لا تصالح!
.. ولو منحوك الذهب
أترى حين أفقأ عينيك،
ثم أثبت جوهرتين مكانهما..
هل ترى..؟
هي أشياء لا تًُشترى
... ..... ...
إنها الحرب قد تثقل القلب..
لكن خلفك عارَ العرب
لا تصالح..
ولا تتوخ الهرب"
إنه شاعر التمرد الطوفاني المخالف للأعراف المُضحى بالنفس من أجل توصيل الفكرة والتحريض على الثورة:
"المجد للشيطان.. معبود الرياح
من قال "لا"
في وجه من قالوا "نَعَم"
من علم الانسان تمزيق العدم
من قال "لا".. فلم يمت
وظل روحا أبدية الألم"
وكما وصفه "د.عبدالعزيز المقالح"بأنه شاعر المقاومة؛ مقاومة للأخطاء النابعة من الداخل، ومقاومة للعدوان القادم من الخارج مستشهدا بقصيدة "زرقاء اليمامة".
لم يكتف "أمل دنقل" بإبراء الذمة وإصدار البيانات التحريضية عن بعد، بل شارك بكتابة قصيدة "الكعكة الحجرية" في وسط مظاهرات طلاب الجامعات بالقاهرة عام 1972 ، منشدا للثورة محرضا عليها مطالبا بالتضحية من أجلها:
"أيها الواقفون على حافة المذبحة
أشهروا الأسلحة!
سقط الموت؛
وانفرط القلب كالمسبحة
والدم انساب فوق الوشاح!
المنازل أضرحة،
والزنازن أضرحة،
والمَدَى.. أضرحة
فارفعوا الأسلحة
واتبعونى!"
ما احوجنا إليك يا ابن الشيخ "أبو القاسم دنقل"، فالشعب عندك تشخيص وتلخيص لحالة بمفردات مباشرة، مستلهما إياها ومستدلا عليها من التراث الديني، وتراه في شعره حالة إنسانية عامة بديانتها الثلاث قبل الفصل وتحديد الملامح والمذاهب. إنها الإنسانية في الصورة الفطرية المدركة الواعية بقدرها ومصيرها.
إن لم يكن شعر "أمل دنقل" صانعا الثورة، فعلى الأقل محرضا على الغضب والرفض لكل اشكال القبح والفجور الآدميين. إنه سيد الشعراء وسيد الثوار بلا مبالغة ولا مغالاة. ما احوجنا إليك في زمن "النهب مالية"، والتوريث بالمجان.
عذرا سيدى "أمل دنقل" كلماتك تقض مضجعي، وسياط يلهب جسدي، وكما تعلم إن اليد الواحدة لا تصفق. أعدك أن مشروعك لن يضيع سدى، والثورة قادمة لا ريب، وغدا لناظره قريب يا سيد الشعراء وسيد الثوار.
د. يحيى القزاز